10 يُونْيُو ( يُونِيَه) 2023
عربي Türkçe
اختيار اللغة:

الكتّاب

فاروق بولاط

 - التنظيم الليبي لداعش في ثلاثة أسئلة
12-12-2018 12:21
فاروق بولاط
تخرج من جامعة أبانت عزت بايسال/كلية العلاقات الدولية. ويعمل حالياً باحثاً في الشؤون الليبية في معهد الشرق الأوسط.

في أعقاب سقوط نظام القذافي سنة 2011، انتقلت قضايا الحرب الداخلية الدائرة في البلد، وفقدان اللاجئين حياتهم في البحر ومشكلات الإرهاب التي أخذت تتأزم وتصبح مزمنة إلى قضايا الأجندات الدولية باستمرار. فقد غدت مسألة الإرهاب التي تشكّل أهمّ المواد على جدول الأعمال خلال السنوات الثلاث الأخيرة في الشرق الأوسط، بعد سيطرة داعش على مساحاتٍ لها في سورية والعراق؛ إحدى المسائل المصيرية الّتي تحمل ليبية على مواجهتها كما هو الحال في كثيرٍ من دول المنطقة. وقد بدأ الظهور الأول لداعش في ليبية اعتباراً من الأشهر الأولى لسنة 2015 كما حصل في بقيّة بلدان المنطقة الّتي سقطت فيها سلطة الدولة. فداعش التي استولت على مدينة سرت في ليبية في أولى مراحلها؛ شغلت الرأي العام العالمي كالعادة من خلال الهجمات التي شنّتها ضد مناطق النفط والمجازر الجماعية التي نفّذتها. وحين بدأ كيان التنظيم في ليبية يشكّل تهديداً على الأمن الإقليمي بصورةٍ جدّية مع حلول عام 2016 قامت القوات البرّيّة لحكومة الوفاق الوطني (البنيان المرصوص) بدعمٍ جوّيٍّ أمريكي، بتنفيذ عملية في سرت. وأسفرت هذه العملية في ختامها عن وضع حدّ نهائي لكيان داعش في ليبية بدرجةٍ كبيرة. لكنّها اعتباراً من شهر أيلول عاد ذكرها على جدول الأعمال من جديد بالهجمات التي شنتها على وحدات الأمن في كلّ من وادي الأحمر الواقع شرقيّ مدينة سرت، ومنطقة الجفرة في جنوبها. ومن جانبها أوضحت أفريكوم في بيانين منفصلين صرّحت بهما في معرض هذا الأسبوع بأنّ التنظيم عاد ليتكتّل من جديد في منطقة الصحراء الليبية، وأنّه تم تنفيذ غارات جويّة ضدّ عناصره الذين أبدوا تحرّكاتٍ فاعلة على مشارف سرت.

يبدأ داعش بالظهور في ليبية مع مطلع 2015 كما ظهر في بقيّة بلدان المنطقة التي سقطت فيها سلطة الدولة

من هذا الموجز للوضع الذي انتقلت إليه ليبية، وأصبحت فيه وجهاً لوجهٍ مع داعش، وعن هذه الحكاية القصيرة تتمخّض ضرورة الإجابة عن ثلاثة أسئلةٍ متفرّقة في سياق مسألة الإرهاب، أوّلها هو:

"هل يوجد لداعش حاضنة شعبيّة في ليبية؟"
ينبغي هنا دراسة صورة المقاتل في التنظيم لنتمكن من الجواب على هذا السؤال المهم من حيث نظرة المجتمع الليبي للتنظيم. يتوقع عدد مقاتلي التنظيم عام 2015 بين 3000 و6500 مقاتل، ويبلغ حالياً قرابة 500 مقاتل؛ يشكّل الأجانب 70% منهم. وقد كشفت دراسة وسائل التنظيم في حملاته الدعائية عن تصدّر المقاتلين من أصول تونسية ومصرية وسورية وعراقية من الناحية العددية، وعند النظر إلى النشاطات الّتي قام بها التنظيم يمكن الحديث عن نشاطٍ لمقاتلين أجانب.وبينما كانت الهجمات الانتحارية على مناطق رأس لانوف والسدر النفطية العام الفائت يقوم بها عناصر التنظيم من أصول سودانية، كان اعتداء زلتان الّذي أسفر عن مقتل 50 شخصاً ينفذه مقاتلٍ تونسي الجنسية يُسمى أبو بكر ياقِن.
انطلاقاً من هذه المحددات والطرق والأساليب التي اتبعها التنظيم في سبيل تأمين سيطرته على سرت 2015-2016؛ يمكننا أن نزعم بسهولة بأن التنظيم يفتقر إلى التأييد الشعبي، ولا يملك حاضنة شعبية كافية. فقد قام التنظيم بتدبير اغتيالات موجّهةٍ ضدّ الشخصيات الدينيّة المشهورة الرائدة في المدينة سعياً منه للتخلص من خطاباتٍ مناوئةٍ له، وعاقبوا من أراد الهجرة والنزوح تحت مخاوف عمليةٍ عسكريةٍ محتملةٍ ضد المدينة.
ويبدو هنا أن تنظيم داعش الذي يفتقر إلى التأييد الشعبي في بقية المناطق الّتي استعرض فيها نشاطاته ابتداءً من مدينة سرت؛ يستهدف مدينة سرت خاصّةً لكي يواصل وجوده في ليبية. ويحاول التنظيم العودة من جديد إلى مدينة سرت بعد إخراجه منها عام 2016 من قِبل وحدات البنيان المرصوص المدعومة بالطيران الجوّي الأمريكي، ويقوم فيها بعملياتٍ جديدة في الآونة الأخيرة. ويأتي هنا السؤال الثاني المهم الذي ينتظر الجواب:

"لماذا تستهدف داعش منطقة سرت؟"
لقد خلّف الفراغ الأمني الّذي حصل في ليبية في أعقاب سقوط نظام القذّافي، مشهداً خضعت فيه كلّ المدن تقريباً لسيطرة مجموعاتٍ مسلّحة. وسرت الّتي تعتبر منطقة تسكنها قبيلة القذافي ويقطنها مناصرو النظام السابق؛ خضعت في الفترة الّتي تلت الثورة للمداهمات الدورية المستمرة من قِبل جماعات المعارضة، وتمّ إكراه قسمٍ من المدينة على النزوح والهجرة.
أدى انتشار قوات ميليشيات صغيرة أو كبيرة في سرت إلى حرمانها من قوة مسلحة تضمن أمنها، وتسهيل سيطرتها من قبل داعش. وكذلك كانت نظرة معارضي الثورة الليبية لداعش على أنه أداة للثأر، وبعبارة أخرى يشكل معهم تهديداً مشتركاً؛ جعلت من سرت مكاناً يستقطب إليه داعش...

داعش يستهدف مدينة سرت تحديداً لكي يواصل وجوده في ليبية بعد افتقاره إلى تأييد شعبي في بقية المناطق التي ينشط فيها

وانطلاقاً من الإجابتين السابقتين سيكون من الصواب القول إنّ وجود كيان تنظيم داعش في ليبية يعود لأسبابٍ بنويةٍ، لا لأسبابٍ وموجباتٍ شعبية، فقد شهدنا في ظل الثورة في ليبية سنة 2011 انهيار نظام التسلسل الهرمي للرتب والدرجات في الدولة بغض النظر عن شرعيته. وإن كان لابدّ من إيجاز هذا التغيّر البنائي باختصار يمكننا أن نقول: إنّ العنصر الأساسي الّذي يميّز السياسة الوطنية عن السياسة الدولية هو البنية الهرمية للسياسة الوطنية. وفي حالة ترهّل النظام الهرمي للرتب والدرجات فإن السياسة الداخلية تبدأ كالسياسة الدولية بالتشكّل في جوٍّ فوضوي. وسقوط البنية الفوقية الّتي تحتكر استعمال السلطة في يدها، يتسبّب بحصول تشتّتٍ في السلطة وتوزّعها بين ممثلين جدد.

 

وبتعبير آخر، إنّ الانقسام الذي سيعرّض النظام إلى التغيير سيولّد ضرورة الاعتراف من جديد بالمبدأ التنظيميّ في النظام. وفي هذا السياق، يمكن تعريف البنية الفوقية (الدولة)التي تحتكر استعمال السلطة ضمن حدودها الخاصة على أنّها اجتماعٌ للمؤسسات التي تتمتّع بمزايا وظيفيّة متباينة، وتحرُّكُها ضمن نظامٍ هرميٍّ.
والتغيير الّذي سيحصل في الحلقة التي تحتكر استعمال السلطة سيكون سبباً في تغيّر أو انهيار النظام الّذي انبثق عن المؤسسات وعن سلوك هذه المؤسسات. وهنا يأتي السؤال الثالث:

"ما هو تأثير هذا التغيير البنيوي في ظهور داعش في ليبية؟"
لقد تصارع الممثلون المحليون الذين لعبوا الدور الرئيسي الأبرز في انهيار نظام القذّافي فيما بينهم من أجل حماية مناصبهم التي شغلوها في المرحلة التي تلت الثورة، والمساحات التي سيطروا عليها. وقد شهدت السياسة الليبيّة لفترة طويلة نوعاً ما تنافساً بين برلمانين تحالفين عسكريين مختلفين. وقد انتهت جميع مبادرات الحوار السياسي في هذه المرحلة عقيمة دون نتائج، فأدى ذلك إلى تكريس الفوضى في ليبية وتأصّلها على يد قوات الميليشيات المسلحّة التي حالت دون تكاملٍ بين الوحدات الأمنية، وإصابتها بالعقم. والعجز عن تأسيس بنية فوقية جعل من ضمان الممثلين الفاعلين لأمنهم وأمانهم عبر مساعيهم الخاصة أمراً لا مفرّ منه، وجعلهم ينزعون نحو التسلح والتحالفات المتغيرة باستمرارٍ ليسدّوا هذه الضرورة.

إن بقاء النظام المراد إنشاؤه عقيماً بلا نتائج حتى عام 2014، والنزاعات الّتي اندلعت بين صفوف "فجر ليبية"وعملية الشرف أعملت الفوضى في خلايا البنية المجتمعية اّتي تشكّل أرضية مواتيةً للانقسام وترتكز على القبائل. وحين ظهر كيان داعش في ليبية مع حلول سنة 2015 لم يكن يمكن الحديث عن ممثل سياسي وعسكري فاعل يمكنه أن يبسط هيمنته ونفوذه على كامل البلد ويضع حدّاً للفوضى، وهذا الانقسام مهّد الطريق أمام داعش لإيجاد ميادين يمكن للإرهاب بسط نفوذه فيها.
يظهر كيان داعش في ليبية عام 2015 نتيجة غياب الممثل السياسي والعسكري الفاعل الذي يبسط هيمنته ونفوذه على كامل البلد ويضع حدّاً للفوضى

ولا بد من التأكيد هنا بأن الاستراتيجية التي اتّبعها الممثلون المحلّيون في مكافحة داعش عند تغلغلها واستقرارها في البنية الفوضوية كانت مؤثّرة وفاعلة. وعلى الرغم من أن موضوع الصراع مع داعش قد شغل مكاناً له في أجندات الأعمال مرّات عديدة في هذه المرحلة فقد قام الممثلون المحليون بتحميل مسؤولية هذا الصراع على بعضهم البعض. وساعدت هذه المقاربة الاستراتيجيّة على مضاعفة التنظيم لقدرته العسكرية يوماً بعد يوم. ومع حلول سنة 2016، كان التنظيم يملك ما بين 3000 إلى 6500 مقاتل كما يُعْتَقَد، ويقوم بتنفيذ هجماته ضدّ المناطق النفطية الواقعة على مشارف سرت، وغدت المواجهة معه وجهاً لوجه أمراً لا مفرّ منه. وعلى الرغم من أنّ عملية تحرير سرت الّتي تمّ إطلاقها بدعمٍ جويٍّ أمريكي قد آتت أكلها خلال أمدٍ قصير، غير أنّ التنظيم عاد ليشغل جدول الأعمال في هجماتٍ مجدَّدة. والمرحلة الّتي تلت عملية سرت أنّ الطرق والأساليب العسكرية في الصراع مع داعش أظهرت أنها لن تثمر عن نتائج على المدى الطويل، فالتنظيم بعد خسارته في السيطرة على سرت قام بالانسحاب إلى المنطقة الصحراوية الواقعة في جنوب المدينة وانتقل إلى مرحلة التجهيز والاستعداد لهجومٍ جديد، وشعوره لمزيدٍ من المقاتلين دفعه إلى البحث عن مصدرٍ جديدٍ للمقاتلين من الخارج مستغلاً الضعف الحاصل في أمن الحدود لصالحه.

وفي الختام، لا بد قبل كل شيئٍ تأسيس البنية الهرمية من جديدٍ من أجل الصراع مع الجماعات المتطرّفة وفي مقدمتها تنظيم داعش. وحتى يتم ذلك، لا بد من إتمام مرحلة الحوار السياسي خلال مدّة وجيزة، وتأسيس المؤسسات الّتي ستشكّل سلطة الدولة الجديدة وفي مقدمتها الوحدات الأمنية، وبخلاف ذلك سيبقى داعش يحمي كيانه ووجوده مستغلّاً الخلافات الناشبة بين صفوف الممثلّين المحلّيين وتشتّت السلطة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات أخرى
الأكثر قراءة
الكتاب